فصل: باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول:

مساءً 5 :46
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
29
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول:

هذه الترجمة فيها شيء من الغموض، والظاهر أن المراد من هزل بشيء فيه ذكر الله مثل الأحكام الشرعية، أو هزل بالقرآن أو هزل بالرسول، فيكون معطوفًا على قوله بشيء.
والمراد بالرسول هنا: اسم الجنس، فيشمل جميع الرسل، وليس المراد محمدًا، فـ: (أل) للجنس وليست للعهد.
قوله: (من هزل). سخر واستهزأ ورآه لعبًا ليس جدًّا.
ومن هزل بالله أو بآياته الكونية أو الشرعية أو برسله، فهو كافر، لأن منافاة الاستهزاء للإيمان منافاة عظيمة.
كيف يسخر ويستهزئ بأمر يؤمن به؟! فالمؤمن بالشيء لابد أن يعظمه وأن يكون في قلبه من تعظيمه ما يليق به.
والكفر كفران: كفر إعراض، وكفر معارضة، والمستهزئ كافر كفر معارضة، فهو أعظم ممن يسجد لصنم فقط، وهذه المسألة خطيرة جدًّا، ورب كلمة أوقعت بصاحبها البلاء بل والهلاك وهو لا يشعر، فقد يتكلم الإنسان بالكلمة من سخط الله عز وجل لا يلقي لها بالًا يهوي بها في النار.
فمن استهزأ بالصلاة ولو نافلة، أو بالزكاة، أو الصوم، أو الحج، فهو كافر بإجماع المسلمين، كذلك من استهزأ بالآيات الكونية بأن قال مثلًا: إن وجود الحر في أيام الشتاء سفه، أو قال: إن وجود البرد في أيام الصيف سفه، فهذا كفر مخرج عن الملة، لأن الرب عز وجل كل أفعاله مبنية على الحكمة وقد لا نستطيع بلوغها بل لا نستطيع بلوغها.
ثم اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن سب الله أو رسوله أو كتابه: هل تقبل توبته؟ على قولين:
القول الأول: أنها لا تقبل، وهو المشهور عن الحنابلة، بل يقتل كافرًا، ولا يصلى عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين، ولو قال: إنه تاب أو إنه أخطأ، لأنهم يقولون: إن هذه الردة أمرها عظيم وكبير لا تنفع فيها التوبة.
وقال بعض أهل العلم: إنها تقبل إذا علمنا صدق توبته إلى الله، وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله تعالى بما يستحق من صفات التعظيم، وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة، كقوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا} [الزمر: 53]، ومن الكفار من يسبون الله، ومع ذلك تقبل توبتهم.
وهذا هو الصحيح، إلا أن ساب الرسول تقبل توبته ويجب قتله، بخلاف من سب الله، فإنها تقبل توبته ولا يقتل، لا لأن حق الله دون حق الرسول، بل لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد إليه بأنه يغفر الذنوب جميعًا، أما ساب الرسول، فإنه يتعلق به أمران:
الأول: أمر شرعي لكونه رسول الله، ومن هذا الوجه تقبل توبته إذا تاب.
الثاني: أمر شخصي لكونه من المرسلين، ومن هذا الوجه يجب قتله لحقه ويقتل بعد توبته على أنه مسلم، فإذا قتل، غسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه، وقد ألف كتابًا في ذلك اسمه: (الصارم المسلول في حكم قتل ساب الرسول)، أو: (الصارم المسلول على شاتم الرسول)، وذلك لأنه استهان بحق الرسول، وكذا لو قذفه، فإنه يقتل ولا يجلد.
فإن قيل: أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول وقبل منه وأطلقه؟
أجيب: بلى، هذا صحيح لكن هذا في حياته، وقد أسقط حقه، أما بعد موته، فلا ندري، فننفذ ما نراه واجبًا في حق من سبه.
فإن قيل: احتمال كونه يعفو عنه أو لا يعفو موجب للتوقف؟
أجيب: إنه لا يوجب التوقف، لأن المفسدة حصلت بالسب، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم، والأصل بقاؤه.
فإن قيل: أليس الغالب أن الرسول عفا عمن سبه؟
أجيب: بلى، وربما كان في حياة الرسول إذا عفا قد تحصل المصلحة ويكون في ذلك تأليف، كما أنه يعلم أعيان المنافقين ولم يقتلهم، لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، لكن الآن لو علمنا أحدًا بعينه من المنافقين لقتلناه، قال ابن القيم: إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول فقط.
وقول الله تعالى: {ولئن سألتهم ليقولون إنما كنا نخوض ونعلب} [التوبة: 67] الآية.
قوله تعالى: {ولئن سألتهم}. الخطاب للنبي، أي سألت هؤلاء الذين يخوضون ويلعبون بالاستهزاء بالله وكتابه ورسوله والصحابة.
قوله: {ليقولن}. جواب القسم، قال ابن مالك:
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ** جواب ما أخرت فهو ملتزم

ولهذا جاءت اللام التي تقترن بجواب القسم دون الفاء التي تقع في جواب الشرط.
قوله: {ليقولون}، أي: المسؤولون.
قوله: {إنما كنا نخوض ونعلب}. أي ما لنا قصد، ولكننا نخوض ونعلب، واللعب يقصد به الهزء، وأما الخوض، فهو كلام عائم لا زمام له.
هذا إذا وصف بذلك القول، وأما إذا لم يوصف به القول، فإنه يكون الخوض في الكلام واللعب في الجوارح.
وقوله: {إنما كنا نخوض ونلعب}: {إنما}: أداة حصر، أي: ما شأننا وحالنا إلا أننا نخوض ونعلب.
قوله: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون}. الاستفهام للإنكار والتعجب، فينكر عليهم أن يستهزئوا بهذه الأمور العظيمة، ويتعجب كيف يكون أحق الحق محلًا للسخرية؟
قوله: {أبالله}. أي بذاته وصفاته.
قوله: {وآياته}: جمع آية، ويشمل: الآيات الشرعية، كالاستهزاء بالقرآن، بأن يقال: هذا أساطير الأولين والعياذ بالله، أو يستهزئ بشيء من الشرائع، كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
والآيات الكونية، كأن يسخر بما قدره الله تعالى، كيف يأتي هذا في هذا الوقت؟ كيف يخرج هذا الثمر من هذا الشيء؟ كيف يخلق هذا الذي يضر الناس ويقتلهم؟ استهزاء وسخرية.
قوله: {ورسوله}. المراد هنا محمد.
قوله: {لا تعتذروا}. المراد بالنهي التيئيس، أي: انههم عن الاعتذار تيئيسًا لهم بقبول اعتذارهم قوله: {قد كفرتم بعد إيمانكم} أي بالاستهزاء وهم لم يكونوا منافقين خالصين بل مؤمنين، ولكن إيمانهم ضعيف، ولهذا لم يمنعهم من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله.
قوله: {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين}.
{نعف}: ضمير الجمع للتعظيم، أي: الله عز وجل.
وقوله: {عن طائفة منكم} قال بعض أهل العلم: هؤلاء حضروا وصار عندهم كراهية لهذا الشيء لكنهم داهنوا فصاروا في حكمهم لجلوسهم إليه، لكنهم أخف لما في قلوبهم من الكراهة، ولهذا عفا الله عنهم وهداهم للإيمان وتابوا.
قوله: {نعذب طائفة}. هذا جواب الشرط، أي: لا يمكن أن نعفو عن الجميع، بل إن عفونا عن طائفة، فلابد أن نعذب الآخرين.
قوله: {بأنهم كانوا مجرمين}. الباء للسببية، أي: بسبب كونهم مجرمين بالاستهزاء وعندهم جرم والعياذ بالله، فلا يمكن أن يوفقوا للتوبة حتى يعفى عنهم.
ويستفاد من الآيتين:
1. بيان علم الله عز وجل بما سيكون، لقوله: {ولئن سألتهم ليقولن}، وهذا مستقبل، فالله عالم ما كان وما سيكون، قال تعالى: {ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله} [هود: 123].
2. أن الرسول يحكم بما أنزل الله إليه حيث أمره أن يقول: {أبالله وآياته}.
3. أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله من أعظم الكفر، بدليل الاستفهام والتوبيخ.
4. أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله أعظم استهزاء وقبحًا، لقوله: {أبالله وآياته} وتقديم المتعلق يدل على الحصر كأنه مابقي إلا أن تستهزؤا بهؤلاء الذين ليسوا محلا للاستهزاء، بل أحق الحق هؤلاء الثلاثة.
5. أن المستهزئ بالله يكفر، لقوله: {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}.
6. استعمال الغلظة في محلها، وإلا، فالأصل أن من جاء يعتذر يرحم، لكنه هنا ليس أهلًا للرحمة.
7. قبول توبة المستهزئ بالله، لقوله: {إن نعف عن طائفة}، وهذا أمر قد وقع، فإن من هؤلاء من عفي عنه وهدي للإسلام وتاب الله عليه، وهذا دليل للقول الراجح أن المستهزئ بالله تقبل توبته، لكن لابد من دليل بين على صدق توبته، لأن كفره من أشد الكفر أو هو أشد الكفر، فليس مثل كفر الإعراض أو الجحد.
وهؤلاء الذين حضروا السب مثل الذين سبوا، قال تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلهم} [النساء: 14] وهم يستطيعون المفارقة، والنبي امتثل أمر الله بتبليغهم، حتى إن الرجل الذي جاء يعتذر صار يقول له: {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة: 67]، ولا يزيد على هذا أبدًا مع إمكان أن يزيده توبيخًا وتقريعًا.
عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة، دخل حديث بعضهم في بعض: (أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنًا هؤلاء، أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عن اللقاء- يعني رسول الله وأصحابه القراء-. فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله، فذهب عوف إلى رسول الله ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله وقد أرتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق). قال ابن عمر: «كأني أنظر إليه متعلقًا بنسعة ناقة رسول الله، وإن الحجارة تنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. فيقول له رسول الله: {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} [التوبة: 67]، ما يلتفت إليه وما يزيده عليه».
قوله: (عن ابن عمر). هو عبد الله.
(ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم وقتادة). والثلاثة تابعيون، فالرواية عن ابن عمر مرفوعة، وعن الثلاثة الآخرين مرسلة.
قوله: (دخل حديث بعضهم في بعض). أي: إن هذا الحديث مجموع من كلامهم، وهذا يفعله بعض أئمة الرواة كالزهري وغيره، فيحدثه جماعة بشأن قصة من القصص كحديث الإفك مثلًا، فيجمعون هذا ويجعلون في حديث واحد، ويشيرون إلى هذا، فيقولون مثلًا: دخل حديث بعضهم في بعض، أو يقول: حدثني بكذا وبعضهم بكذا، وما أشبه ذلك.
قوله: (في غزوة تبوك). تبوك في أطراف الشام، وكانت هذه الغزوة في رجب حين طابت الثمار، وكان مع الرسول في هذه الغزوة نحو ثلاثين ألفًا، ولما خرجوا رجع عبد الله بن أبي بنحو نصف المعسكر، حتى قيل: إنه لا يدرى أي الجيشين أكثر: الذين رجعوا، أو الذين ذهبوا؟ مما يدل على وفرة النفاق في تلك السنة، وكانت في السنة التاسعة، وسببها أنه قيل للنبي: إن قومًا من الروم ومن متنصرة العرب يجمعون له، فأراد أن يغزوهم إظهارًا للقوة وإيمانًا بنصر الله عز وجل.
قوله: (ما رأينا). تحتمل أن تكون بصرية، وتحتمل أن تكون علمية قلبية.
قوله: (مثل قرائنا). المفعول الأول، والمراد بهم الرسول وأصحابه.
قوله: (أرغب بطونًا). المفعول الثاني، أي: أوسع، وإنما كانت الرغبة هنا بمعنى السعة، لأنه كلما اتسع البطن رغب الإنسان في الأكل.
قوله: (ولا أكذب ألسنًا). الكذب: هو الإخبار بخلاف الواقع، والألسن: جمع لسان، والمراد: ولا أكذب قولًا، واللسان يطلق على القول كثيرًا في اللغة العربية، كما في قوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [إبراهيم: 4] أي: بلغتهم.
قوله: (ولا أجبن عند اللقاء). الجبن: هو خور في النفس يمنع المرء من الإقدام على ما يكره، فهو خلق نفسي ذميم، ولهذا كان النبي يستعيذ منه لما يحصل فيه من الإحجام عما ينبغي الإقدام إليه، فلهذا كان صفة ذميمة، وهذه الأوصاف تنطبق على المنافقين لا على المؤمنين، فالمؤمن يأكل بمعي واحد: ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه، والكافر يأكل بسبعة أمعاء، والمؤمن أصدق الناس لسانًا ولا سيما النبي وأصحابه، فإن الله وصفهم بالصدق في قوله: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} [الحشر: 8].
والمنافقون أكذب الناس، كما قال الله فيهم: {والله يشهد إنهم لكاذبون} [الحشر: 11]، وجعل النبي الكذب من علامات النفاق، والمنافقون من أجبن الناس، قال تعالى: {يحسبون كل صيحة عليهم} [المنافقون: 4]، فلو سمعوا أحدًا ينشد ضالته، لقالوا: عدو عدو، وهم أحب الناس للدنيا، إذ أصل نفاقهم من أجل الدنيا ومن أجل أن تحمي دماؤهم وأموالهم وأعراضهم.
قوله: (كذبت). أي: أخبرت بخلاف الواقع، وفي ذلك دليل على تكذيب الكذب مهما كان الأمر، وأن السكوت عليه لا يجوز.
قوله: (ولكنك منافق). لأنه لا يطلق هذه الأوصاف على رسول الله وأصحابه رجل تسمي بالإسلام إلا منافق، وبهذا يعرف أن من يسب أصحاب رسول الله أنه كافر، لأن الطعن فيهم طعن في الله ورسوله وشريعته.
فيكون طعنًا في الله، لأنه طعن في حكمته، حيث أختار لأفضل خلقه أسوأ خلقه.
وطعنًا في الرسول: لأنهم أصحابه، والمرء على دين خليله، والإنسان يستدل على صلاحه أو فساده أو سوء أخلاقه أو صلاحها بالقرين.
وطعنًا في الشريعة: لأنهم الواسطة بيننا وبين الرسول في نقل الشريعة، وإذا كانوا بهذه المثابة، فلا يوثق بهذه الشريعة.
قوله: (فوجد القرآن قد سبقه). أي: بالوحي من الله تعالى، والله عليم بما يفعلون وبما يريدون وبما يبيتون، قال تعالى: {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضي من القول} [النساء: 108].
قوله: (وقد ارتحل وركب ناقته). الظاهر أن هذا من باب عطف التفسير، لأن ركوب الناقة هو الارتحال.
قوله: (كأني أنظر إليه). كأن إذا دخلت على مشتق، فهي للتوقع، وإذا دخلت على جامد، فهي للتشبيه، وهنا دخلت على جامد، والمعنى: كأنه الآن أمامي من شدة يقيني به.
قوله: (بنسعة). هي الحزام الذي يربط به الرحل.
قوله: (والحجارة تنكب رجليه). أي يمشي والحجارة تضرب رجليه وكأنه والله أعلم يمشي بسرعة، ولكنه لا يحس في تلك الحال، لأنه يريد أن يعتذر.
قوله: (وما يزيده عليه). أي: لا يزيده على ما ذكر من توبيخ امتثالًا لأمر الله عز وجل، وكفى بالقول الذي أرشد الله إليه نكاية وتوبيخًا.
* فيه مسائل:
الأولى: وهي العظيمة، أن من هزل بهذا كافر. الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنًا من كان. الثالثة: الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله. الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله.الخامسة: أن من الأعتذار ما لا ينبغي أن يقبل.
فيه مسائل:
* الأولى وهي العظيمة: أن من هزل بهذا كافر. أي من هزل: بالله وآياته ورسوله.
* الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنًا من كان. أي: سواء كان منافقًا أو غير منافق ثم استهزأ، فإنه يكفر كائنًا من كان.
* الثالثة: الفرق بين النميمة والنصيحة لله ولرسوله. النميمة: من نم الحديث، أي: نقله ونسبه إلى غيره: وهي نقل كلام الغير للغير بقصد الإفساد، وهي من أكبر الذنوب، قال: (لا يدخل الجنة نمام) وأخبر عن رجل يعذب في قبره، لأنه كان يمشي بالنميمة، وأما النصحية لله ورسوله، فلا يقصد بها ذلك، وإنما يقصد بها احترام شعائر الله عز وجل وإقامة حدوده وحفظ شريعته، وعوف بن مالك نقل كلام هذا الرجل لأجل أن يقام عليه الحد أو ما يجب أن يقام عليه وليس قصده مجرد النميمة.
ومن ذلك لو أن رجلًا اعتمد على شخص ووثق به، وهذا الشخص يكشف سره ويستهزئ به في المجالس، فإنك إذا أخبرت هذا الرجل بذلك، فليس هذا من النميمة، بل من النصيحة.
* الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله. العفو الذي يحبه الله: هو الذي فيه إصلاح، لأن الله اشترط ذلك في العفو فقال: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشوري: 40] أي: كان عفوه مشتملًا على الإصلاح، وقال بعضهم: أي أصلح الود بينه وبين من أساء إليه، وهذا تفسير قاصر والصواب أن المراد به أصلح في عفوه، أي كان في عفوه إصلاح.
فمن كان عفوه إفسادًا لا إصلاحًا، فإنه آثم بهذا العفو، ووجه ذلك من الآية ظاهر، لأن الله قال: {عفا وأصلح}، ولأن العفو إحسان والفساد إساءة، ودفع الإساءة أولى، بل العفو حينئذ محرم.
والنبي غلظ على هذا الرجل لكونه لم يلتفت إليه، ولا يزيد على هذا الكلام الذي أمره الله به مع أن الحجارة تنكب رجل الرجل، ولم يرحمه النبي ولم يرق له، ولكل مقام مقال، فينبغي أن يكون الإنسان شديدًا في موضع الشدة، لينًا في موضع اللين، لكن أعداء الله عز وجل الأصل في معاملتهم الشدة، قال تعالى في وصف الرسول وأصحابه: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} [الفتح: 29]، وقال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير} [التحريم: 9] و: [التوبة:73]، ذكرها الله في سوريتين من القرآن مما يدل على أنها من أهم ما يكون، لكن استعمال اللين أحيانًا للدعوة والتأليف قد يكون مستحسنًا.
* الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل. الأصل في الاعتذار أن يقبل لا سيما إذا المعتذر محسنًا، لكن حصلت منه هفوة، فإن علم أنه أعتذار باطل، فإنه لا يقبل.